الرجل العالم والعالم العامل
بقلم: جعفر صادق الجبوري
تمر علينا ذكرى رحيل العالم الرباني والرجل الذي يعرف كل شيء على حد وصف أحد الصحفيين الذي قابله، الرجل الذي كان قد حاز على درجة الاجتهاد في سنٍ مبكرة جداً، فحفظ القران الكريم وخطب نهج البلاغة فقرأهما عن ظهر قلب، فكان متبحراً في العلوم الدينية إلى جانب العلوم الحديثة كالطبيعيات والرياضيات والطب. ويُلم باللغات الفارسية والتركية والفرنسية إلى جانب تعمقه بالعربية. انه الشيخ محمد بن الشيخ محمد مهدي الخالصي الاسدي تغمدهما الله بواسع رحمته وعظيم عفوه.
الرجل الذي كان في مقدمة المجاهدين ضد الإنكليز دفاعاً عن الدين والعرض والوطن، الرجل الذي تعرض للمنافي والسجون لما كان له من نشاط ديني وسياسي في العراق وباقي بقع الأرض التي نفي إليها، الرجل الذي حاربه القريب والبعيد إما حسداً وبغياً وإما جهلاً!!! (فالويل للجهل إذ بالجهل عنه عمو).
الرجل الذي كان يحمل من الايمان واليقين ما لم يحمله أحد غيره من اقرانه، فكان رحمه الله عندما يتعرض للتعذيب أو للتهديد والتخويف يلجأ الى ربه مستقوياً به دون سواه متسلحاً بإيمانه وصلب عقيدته، وهذا ما يظهر جلياً حينما خاطب أحد طغاة عصره قائلاً: (إني قد استعذبت التعذيب في الله ولا ارضى به بدلاً، فهذا صدري للرصاص، وهذه رقبتي للمشنقة، المشنقة التي يخافها الناس هي سلم للوصول الى الجنان، والرصاص الذي يصيب الناس في الصدور هو نثار عرس مع الحور العين).
الرجل الذي كتب فيه الادباء والكتاب ما كتبوا بغية الوصول الى وصف دقيق لهيبته ووقاره وفيض علمه دون نيل مرادهم، بل ودون تقليل كيل السباب والشتائم التي واجهه بها الجهال والحساد والمنتفعون وأصحاب العاجلة الزائلة ممن لا يروق لهم ان تجري أحكام الله في عباده بوجهها الصحيح فتتعرض مصالحهم للأذى؛ فهم مع النفع العاجل حيث دار.
تصور عزيزي القارئ ان رجلاً يدعو الى الله والى إحياء سنة رسول الله ونفي البدعة والخرافة والى وحدة الكلمة ورصِّ الصف يجابه بهذا الكيل من التهم الباطلة والدعايات الفارغة من قبل ادعياء العلم وممن يحسبون أنفسهم مسلمون حقا!!!
لقد واجه هذا الرجل من هؤلاء ما يصدع الجبال ويشيب الولدان دون ان يزعزعوه عن منهجه الإصلاحي قيد انملة، حتى أشفق بعض المثقفين على الرجل لما رأوا قيام الجهال في وجهه وشدة الضوضاء والجلبة فكلموه بكلمات ليخفف من دعوته، فأجابهم بأجوبة رأيت من اللازم أن أقتطف منها شيئاً لأعرضه على المرشدين من دعاة الحق كي ينهجوا منهجه ويسلكوا مسلكه، ولهم في ذلك أكبر الفائدة في الدنيا والآخرة، وبين أولئك المثقفين: الوزراء، والولاة، والأمراء، والأساتذة، والقضاة، والعلماء، والأدباء، ومن ترأس الوزارة، وغيرهم.
فحين قال قائلهم: (يا مولانا لماذا أثرت الرأي العام ضدك؟ إن الناس كانوا يتبركون بتراب أقدامك، والآن يسبونك فلماذا بينت الأحكام الشرعية بهذه الصراحة؟)
فأجاب رحمه الله: (إن من استأنس بالله استوحش من الناس، وإن من كبر في عينه الخالق صغر فيها المخلوق، وإن إقبال الناس وإدبارهم سواء، وإن الرياء كفر، وكتمان الحق فسق عظيم، وإن المسلم لا يطلب الرياسة لنفسه وإنما يطلب الخير لأمته، وفي الحديث: (ما ذئبان ضاريان في غنم تفرق رعاتها بأضر على الدين من حب الرياسة) وإن حرب أهل العالم بأسرهم في الله ألذ لمن عرف الله من القصور المشيدة والنمارق المنضدة، وسواء عليَّ تبرك الناس بتراب قدمي أم سبوني، وكلاهما مخالف للدين).
وقال آخر: شيخنا إن الحكومة كانت تهابك بالتفاف الناس حولك، والآن لا هيبة لك في قلب الحكومة.
فأجاب عليه الرحمة: (وسواء عندي تهيبتن الحكومة أم لم تتهيبن، وإذا احتقرتني وأنا على الحق خير من أن تهابني وأنا على الباطل).
وقال آخر: إن الناس كانوا يأتون إليك بالأموال الكثيرة، فنفرتهم بفتاواك وانقطعت عنك أموالهم. فأجاب رضوان الله تعالى عليه: (وما صنعي بالأموال يأتيني بها الناس إذا كان الله قد غضب عليَّ لكتمان الحق، وقد قال تعالى في سورة البقرة: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ، ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)).
وقال آخر: هذا فلان (أحد المجتهدين) ساكت لا يتكلم، والناس ملتفون حوله يأتون إليه بالأموال ويتبركون به فلو فعلت مثله.
فأجاب: (أتريدون أن أتاجر بالدين فأبيعه لجلب الأموال وبالتفاف الناس حولي، ومن ينجيني من الله لو فعلت ذلك؟ وأي شيء يفيدني جلب الأموال والتفاف الناس حولي إذا جئت يوم القيامة مغيراً لحكم من أحكام الله، أو ساكتاً عن إظهار حق أو إبطال باطل كما فعل فلان وفلان؟ ألم يرد في الحديث: (إن الساكت عن الحق شيطان أخرس).
وهناك الكثير من قبيل هذا الكلام لا يسع المقام لذكرها..
لقد بقي شيخنا الراحل رضوان الله تعالى عليه على هذا النهج، ثابت العقيدة نقي الثوب حتى فاضت روحه الزكية ورجعت إلى ربها راضية مرضية في آخر ساعات ليلة الجمعة (التاسع عشر من رجب عام 1383 للهجرة) الموافق: 21/12/1963م.
وإني إذ اكتب هذه السطور في هذه الذكرى ليس حرصاً على إحيائها فقط وان كان من الواجب إحياؤها، بل حرصاً على أولئك الذين ورثوا الحقد والبغض لهذا الرجل فيسارعون باللعن والشتم بمجرد ذكر اسمه دون تمحيص وتدقيق مذكرا إياهم بأن هذا السلوك لا يليق بإنسان مسلم سوي فهذا علي أمير المؤمنين سلام الله عليه ينهى بعض أصحابه عن هذا السلوك بحق من خالفهم فكيف بمن هو يريد إصلاح حالهم وعلو شأنهم عندما سمعهم يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين مخاطبا لهم: (إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ)
كما لا ينبغي ان نغفل عن ان هذا الفعل هو من الغيبة وهو من الذنوب التي لا يغفرها الله حتى يغفرها صاحبها وأنى لكم ان يغفرها صاحبها وهو قد فارق الحياة قبل عشرات السنيين!!!
وآيات القران الكريم ومواعظ وأحاديث الرسول الكريم واهل بيته صلوات الله تعالى عليهم أجمعين في النهي عن اللغو والغيبة وما شابه ذلك دالة وواضحة لكل ذي لب.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ.
بقلم: ج. ص. ج.