في وداع مأوى العراقيين ورفيق المهجر الطويل: السيد مضر الحلو
لم يفاجئنا الموت؛ فهو وارد إلى كل حيّ، وشامل وواصل لكل إنسان، ولكنه يبقى حقًا شجنًا حزينًا على النفوس، خصوصاً حين يكون الفقيد سلوة لكل الناس ومفتاح خير لكل من يقصده. في المهجر العراقي الطويل، الذي بدأ منذ أكثر من مائة عام، وبعد الغزو البريطاني، كان المقطع الأخير منه قد انطلق من غير قصد ولا تحديد منذ عام 1980م، وقبل بدء الحرب العراقية الإيرانية.
كما بدأت وجبات من المهجر قبل ذلك وفي مراحل متعددة، وكانت قاسية جداً، لأن الذين اخرجوا لم يُمهلوا لأخذ شيء معهم. وأشد ما في تلك اللحظات العجاف القاسية، كان موضوع الانقطاع عن التواصل مع الأهل في العراق، والقلق من الأخبار المهولة التي كانت تتوالى: سجون، واعتقالات، وإعدامات، ثم حروب مدمرة لا تنتهي. وكان الاتصال بشخص في العراق يكلف حياة أحد الطرفين أو كليهما، خصوصاً الطرف الذي كان يعيش في العراق، ولهذا شواهد وقصص لا تُحصى في ظل حكم تلك الشرذمة الحاقدة الغبية.
من هذا الصراع القاسي بقي للعراقيين بعض رجال الخير الصادقين الذين يتابعون قضاياهم ويعملون لمساعدتهم، فيما استغل آخرون جراحات إخوانهم لمصالح شخصية أو سياسية ضيقة. كان من أبرز رجال الصف الأول في الخير والعون السيد العزيز الراحل قريباً إلى الله، السيد مضر السيد جابر الحلو.
في الحقيقة، كان الرجل مميزًا بعطائه وخلقه وحسن صبره، ومساعدة الناس منذ كان في وضع جيد في الكويت وحتى بعد أن ضاقت به الأحوال في سوريا، التي آوت العراقيين واستقبلت المهجرين والمهاجرين، ومنهم السيد مضر الحلو ورفاقه الذين عاشوا في الكويت مدة طويلة واعتُقلوا بعد حادث أمني كبير، ولم يكن السيد الراحل ولا المعتقلون معه على دراية به فضلاً عن المشاركة فيه.
ورغم شدة مأساتهم والأذى الذي أصابهم، ظلت روح الأدب والظرافة طاغية عليهم. ففي معتقل المخابرات الكويتية بمنطقة سلوى، اجتمع عدد من العراقيين، وكان السيد مضر بينهم، ومعه الأديب الكبير السيد مصطفى جمال الدين، شاعر العرب المميز والعالم الديني المعروف. لم تُميز الأجهزة الجاهلة والخائفة من ظلها بين الشخصيات؛ بل أُخذوا جميعاً وتعرضوا للتعذيب الأعمى.
هنا بادر الشاعر الكبير جمال الدين إلى نظم أبيات جميلة تصف الحالة، ومطلعها:
في ليلة مظلمةٍ بسلوى ** صُبّت علينا من صنوف البلوى
خمسٌ وعشرون من العراق ** من كل غطريف وبيت راقي
يبدأ بذكر واحد واحد من المعتقلين حتى يصل إلى الشيخ عبد الجليل (أبو حيدر) رحمه الله، الذي كان على وشك السفر إلى قبرص فأعيد مخفوراً من المطار، وكان يكثر المزاح وسط الألم حتى شبّهت حركته بالنار أو رائحتها بـ"الشعواط". فذكره السيد جمال الدين بقوله:
وشيخ شعواطٍ يكاد يرقص ** مؤملاً أن تحتويه قبرص
كان السيد الراحل (أبو حيدر) يحفظ هذه الأبيات، وكنت اسمعه يرددها، وصرنا نذّكره بها في حالة مرضه الأخيرة، وكان يكمل الأبيات التي تبدأ بذكر مقدمتها.
كان السيد مضر رجلاً رائعاً بأخلاق واسعة، وأكاد أجزم أنه لا أحد جاء من العراق إلى الشام إلا وليقه وتعرّف عليه، ولا أحد إلا وحظي بشيء من خلقه وعونه وجمال شمائله. وكان يساعده في ذلك معاونه الأول المرحوم عزيز بن قاسم الكاظمي، الذي كان يقول للناس إنه ابن قاسم الشمر لتعريف نفسه، لأنه كان يُمثّل دوره في التشابيه التي تجري بالكاظمية أيام عاشوراء. كان عزيز بن قاسم (أبو اركان) نسخة مشابهة للسيد الراحل في الخلق والمساعدة والنخوة والغيرة، وقد سبقه إلى الله، وحزن السيد مضر لفقده كثيراً.
ولا أعتقد أن جنازة عراقية دُفنت في الشام إلا وكان أبو أركان حاضرًا فيها. كان السيد مضر يشرف عليها، من السيد رضا الوردي إلى السيد مصطفى جمال الدين، وغيرهم من أصحاب السجن الآخرين، بما فيهم والدتي وأخي.
هذه ذكريات تستحق المتابعة والاهتمام والتدوين من منطلق الهم العام، وليس الوضع الشخصي الذي نعاني منه في اغلب احوالنا وتوجهاتنا.
من اللازم أن نشير إلى نشأة السيد مضر الحلو في مدينة البصرة الفيحاء الجميلة، وخاصة في مسجد الفقير في المدينة القديمة، في ظل الأجواء الحسينية التي كان السيد أبو حيدر من روادها وخطبائها وشعرائها، ومسجد الفقير وشيخه العلامة المجاهد الشيخ عبد الرضا الجزائري، الذي كان يلتف حوله الشباب، ولهذا المسجد قصة أخرى سنأتي إليها في فرصة قادمة بإذن الله.
وداعاً أبا حيدر، وانت تنطلق أمامنا إلى لقاء الله الجليل الرؤوف الرحيم، الذي أحببته وعملت من أجل رضاه وجاهدت في سبيله. فتقبلك الله عنده في الصالحين، ويجازيك خير جزاء المحسنين، مشفوعاً بولاء خاتم المرسلين محمد وآله الطاهرين. إنا على فقدك لمحزونون، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
الراجي جواد الخالصي
30 ربيع الاخر 1446هـ
2 تشرين الثاني 2024م