هل مات محمّد الخالصيّ؟!
بقلم: جعفر صادق الجبوري
عن رسول اللّه صلّى الله عليه وآله وسلّم: "العلماء ورثة الأنبياء يحبهم أهل السماء ويستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة"
لعلّ أول ما يتبادر إلى ذهني عند ذكر الشّيخ محمد الخالصيّ ما ورد في حديث رسول الله صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم "العلماء ورثة الأنبياء“
لما تركه هذا العالم الفذّ من سيرة وسلوك وجهاد وكفاح وثبات على المبدأ والموقف الشّرعيّ فضلاً عن العلم والمعرفة، ليس فقط في مجال العلوم الشّرعيّة فحسب بل في كلّ مجالات المعرفة والعلوم الحديثة! الأمر الذي جعله يوظف ذلك في خدمة دينه وردّ عادية الظالمين والضّالين الذين يريدون بالإسلام والمسلمين السّوء.
ففي ذكرى رحيله الثاني والستين أتساءل ويتساءل المحبون: “هل مات محمد الخالصيّ؟"
الرجل الذي ملأ الدنيا علماً وفقهاً (ديناً وسياسةً) رغم كل ما عانه، ومن بدايات شبابه من نفي وتشريد!
ففي مطلع شبابه شارك والده موقفه في ردّ عادية الهجمة الاستعماريّة التي طالت البلاد الإسلاميّة من غير تمييز بين هذه المنطقة أو تلك، أو هذه الطّائفة وتلك، أو هذا العرق أو ذاك.
ولما هاجم الإنكليز بلده العراق هبّ بمعية والده إلى ساحات الجهاد والكفاح فتراه مرة يحمل سلاحه وأخرى شاحذاً للهمم حاثاً أبناء العشائر على الجهاد! الامر الذي دفع الإنكليز إلى إبعاده إلى إيران ولكنّ النّفي لم يكن مانعاً من قيامه بواجبه الشّرعيّ فوقف بوجه سلطاتها العميلة التي دفعت به إلى غياهب السّجون القاسية وبكلّ ما تحمله الكلمة من معنى! يواصل جهاده ولكن بطريقة أخرى فأخذ سبيل الجهاد العلميّ إن صح التعبير.
فأخذ يكتب ويؤلف ويردّ على الذين يحاولون بثّ السّموم وإشاعة الخرافة. ولم يكتف بهذا أيضاً بل صنع من السجون والمنافي قلاع دعوة للإسلام وللحريّة التي فقدها سجّانوه ومعذّبوه! فأصبح يقود المظاهرات ويحث الناس على طلب الحرية وتحكيم شرع الله فيهم، وهو في بلاد النفي والغربة!
ورغم كل هذا وذاك فقد كان رحمه الله تعالى عالماً لا يجارى، وفقيهاً من طراز خاص بإجماع الفقهاء والباحثين.
فترك مجموعة من المؤلفات المعتبرة التي مضى عليها ما يزيد عن نصف قرنٍ دون أن تفقد شيئاً من أهميتها وندرتها!
ومما يجدر الإشارة إليه أن كتبه ومؤلفاته وكتاباته لم تكن تجري مجرى كلاسيكياً، بل تجري في معالجة المشاكل التي يعاني منها الناس وتواكب التطور العلمي وتتخذ من العلم الحديث وسيلة لأثبات شرعيّة الإسلام وقيادته للحياة، ومثبّتة لوحدانيّة الله تعالى.
نعم غاب محمد الخالصي جسداً فهذه سنة الله في عباده فإن معنى الموت هو زَوَالُ الْحَيَاةِ عَنْ كُلِّ كَائِنٍ حَيٍّ، كما جاء في سورة آل عمران آية 185 ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائقة الموت﴾.
أما نهجاً وروحاً فمحمّد الخالصيّ حاضر بيننا في كل أوان، فهذه صلاة الجمعة التي أحياها بعد زمن طويل من الترك ما تزال قائمة قد ملأت الدنيا ولله الحمد والمنّة!
وهذا صرحه العلميّ الذي أسسه في مدينة الكاظمية لطلب العلوم الدينية والعلوم المعاصرة ما يزال قائماً بيننا ينذر ويحذّر الأمة من غياهب الضلال والإنحراف بالوقوف مع المحتلين ومشايعة الظالمين تحت أي ظرف كان!
ولكن ما هو مؤسف ومرير في أمر غياب محمد الخالصيّ أن دور المرجعية الدينية قد نحى منحاً آخر بعده!
فلم نعد نرى المرجع ممسكاً بزمام الأمور ولا متصدراً لقيادة الأمة ولا منبهاً لها من الفتن التي تحيق بها، فلم نرَ المرجع صادّاً للهجوم الاستعماري بشتى أشكاله (الفكري، الثقافي..)، ولم نره يتكلم ويناقش ويسد الفرج ويبدد الظلام ويزيل التكهنات! بل اقتصر دوره على أخذ الحقوق وإعلام الناس بموعد رؤية الهلال، وإيجاد الحيل الشرعية وما إلى ذلك!
وهنا لا أريد أن انكر دور المراجع والعلماء ولا أنفي اخلاصهم، بل هي دعوة إلى أن يتخذوا من الرسول والائمة (صوات الله تعالى وسلامه عليهم) أسوة وقدوة، ومن سنتهم وسيرتهم منهاجاً.
فالرسول (صلى الله عليه واله وسلم) لم يقف أمام حصار المشركين عاجزاً ولم يتخذ من حربهم وعزلتهم وحصارهم له ولأهله شماعة وسبباً للقعود عن دوره وجهاده.
وهذا ما كان يميز فقيدنا صاحب الذكرى الذي اتخذ من كتاب الله وسنة نبيه وسيرته وسيرة الائمة من أهل بيته سيرة ومنهاجاً! غير آبه بكلّ سبل العدو في حربه له.
وهنا أود أن أضع بين يدي القارئ العزيز مثالاً عن دور المرجع في الأمة ومدى تأثيره على الرّأي العام في كلّ مكان من خلال نقل ما جاء في كتاب إحياء الشريعة عن زيارة رئيس جامعة (ترينستن) الأميركية إلى مدينة الكاظمية:
زارنا في مدرستنا (جامعة مدينة العلم) بعد انتشار الجزء الأول من كتاب إحياء الشريعة، وكتاب الإسلام سبيل السعادة والسلام، رئيس جامعة (ترينستن) الأميركية هو وزوجته، وهذا الرجل يحمل الجنسية الأميركية وهو من أصل لبناني، وكان قد كتب كتاباً باللغة الإنكليزية في تاريخ العرب في ثلاثة مجلدات، وقد ترجم الى اللغة العربية وانتشر في جميع بلدان الشرق والغرب، وفيه تحامل على الدين الإسلامي، ونسبة ما ليس منه إليه، ولما استقر به المجلس ألقى أسئلة عديدة عن الدين الإسلامي مثل: (حقوق المرأة) والحجاب، والأراضي، والحقوق المالية والجزائية، وغير ذلك.
فأجابه المؤلف عن أسئلته، وكأنه ظن أنه يجامله في الجواب ويذكر له غير أحكام الإسلام لإرضائه، فقال: هذا الذي تقوله أنت هل يوافقك عليه زملاؤك؟
قال المؤلف: ومن هم زملائي؟
قال علماء الدين الإسلامي، قال المؤلف إني أذكر لك أحكام الإسلام فمن وافق عليها فهو مسلم، ومن لم يوافق فليس بمسلم.
وانتقل الحديث الى كتابه الذي كتبه في تاريخ العرب فقال المؤلف له: إنك نسبت الى الإسلام أشياء ليست فيه، وإن أكبر أمانة في عنق الكاتب أن يؤديها دائماً هو الصدق في النقل وعدم التغيير والتحريف وعدم التحيز الى جهة دون جهة، وكتابك الذي كتبته عن العرب لم يحفظ هذه الأمانة، فإنك نقلت عن الدين الإسلامي أموراً خارجة عنه مما يشوه سمعته ويسدل ستاراً على حقائقه كيلا ترى، فكأنك أخذت الدين الإسلامي من أسواق البلاد الإسلامية وشوارعها وأزقتها وطرقاتها ولم تأخذه من منابعه الصافية.
وأخذت تطعن فيه بتحيز لا ينبغي لحملة الأقلام أن يرتكبوه، وكأنك أتهمتني في أجوبتي لك بأني قد غيرت وحرفت في الدين لجلبك إليه فلذلك سألت عن زملائي أيوافقونني أم لا؟
وها أنا أقدّم لك ما كتبته قبل سنين في أحكام الإسلام، وفيما أقدمه جواب كل أسئلتك!
وإني حين كتبت هذين الكتابين لم أقدر ولم أعلم إنك ستأتي الى هنا وستسأل هذه الأسئلة فأعد لها جواباً يلائم ذوقك.
وبهذا تعلم أن الدين الإسلامي هو ما قلته لك لا ما كتبته أنت.
فأخذ الكتابين شاكراً تلك الهدية، ووعد أن يصحح ما كتبه سواء باللغة الإنكليزية أو العربية، وإنه سيرسل مؤلفاته الى المدرسة.
ثم دار الحديث حول ما يشيعه أعداء الشيعة من أنهم يقتلون أو يهينون من يرد الى مساجدهم ومدارسهم ويسألهم عن دينهم.
فقال المؤلف: إنك وزوجتك قد وردت إلينا وحضرت مجلسنا ولقيت من الترحيب والإكرام ما يجب أن يلقاه كل ضيف كريم، وهذه المدارس والمساجد والجوامع الدينية مفتوحة أبوابها في وجهك ترحب بك وبزوجتك، فاستغرب ذلك وقال: وهل يمكن لزوجتي أن تزور الجوامع الدينية هنا؟
فقال له المؤلف: وها هي جالسة هنا بكلِّ احترام، وهل بعد الوجدان من دليل.
وزار هو وزوجته المراكز الدينية في الكاظمية والمسجد الكبير والروضة الكاظمية المشرفة، وانصرف معجباً بما شاهد مكذباً لما كان يسمعه من أن الزائرين للمجامع الدّينية الشّيعية يلقون جفوة كبيرة وإهانة شديدة من أهلها.
وهنا توجه المؤلف إلى الحاضرين ممن كان يستمع إلى الحديث الذي جرى وقال لهم: إنّ الدّعاية ضد الدّين الإسلامي عامّة والشّيعة خاصّة، تجرى في البلاد حتى حملت هذا الرّجل على أن يكتب ما يشين سمعة الإسلام عامّة والشّيعة خاصة، ونحن لاهون ساهون لا نعرف فلسفة الدين، وندع الإسلام يأخذه النّاس من أعمال وأيدي وألسنة الجهال وأهل الخرافات والأهواء الباطلة والدجالين، حتى ظنوا أنّ الدّين الإسلامي تطبير الرؤوس بالسيوف ولطم الصدور والضرب بالسلاسل على الظهور والنفخ بالبوقات والرقص على الدّفوف وسلب حقوق الإنسان وحريته، فينفر بذلك النّاس الذين لا يعرفون الدّين الإسلامي عنه.
ألسنا مسؤولين أمام الله عن تقاعسنا وسكوتنا؟
*أقول: هكذا يجب أن يكون المرجع حاضراً على الدّوام! ملماً بالعلوم المختلفة إلى جانب علوم الفقه والقرآن والحديث وما شابه، حين إذ يمكن أن يعرّف بأنه نائب الإمام! فينافح عن الدّين ويصد عنه عادية المغرضين والمتربصين، ليكون ممن يشملهم رفع درجاتهم على من لم يستخدم العقل بموجب قوله عزّ من قائل: ﴿... يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ...﴾(المجادلة:11)، وسيكون حتما أقرب الناس درجة من الأنبياء!، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: "أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد".
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم.
الأربعاء: 19 رجب الأصب 1445هـ