الشيخ الخالصي .. كفاح فكري وجهاد مسلح لنصرة المضطهدين وطرد المحتلين من ارض الوطن
ان موقف المؤسسة الدينية في العراق لم يقتصر فقط على الوعظ الديني بل اخذت منحى مغاير تماماً لتوجهات عملها، بعد اطلاعها على حجم المخاطر التي بدأت بالنيل من قيم الإسلام الحقيقي ومحاولة تشويه تعاليمه السامية، فقد عمل المحتل البريطاني منذ ان وطأة اقدامهم ارض العراق على نشر الأفكار الخبيثة والمسمومة التي نخرت المجتمع العراقي، لذا اخذت الحوزة العلمية على عاتقها توعية الشعب من التهديدات المحدقة التي بدأت بالرواج والانتشار بين الأوساط الاجتماعية في البلاد، حينها ظهر رجال الدين والمفكرين والعلماء لمحاربة المحتلين والمتسلطين على خيرات الشعب واخراجهم بشتى الطرق، وبعد التفاف الجماهير الشعبية حول المراجع العظام وايمانهم بضرورة ابعاد الأجنبي عن الأرض قبل فوات الأوان، شرعت المراجع الدينية في البلاد بعد الاتفاق مع القادة والزعماء والمجاهدين وشيوخ العشائر على القيام بثورة وطنية تحررية لتخليص العراق من الاحتلال البريطاني وانتزاع سيادته واستقلاله، ليقدموا بذلك أروع صور التضحية والتفاني والإخلاص من اجل تحقيق أهدافهم المرجوة ونصرة المظلومين والمضطهدين، لذا سنسلط الضوء على سيرة أحد اهم الشخصيات الدينية التي ساهمت باقتلاع جذور الغزاة من ارض الوطن هو الشيخ محمد الخالصي.
نشأته
ولد آية الله محمد الخالصي الاسدي عام 1888م (1306 هـ) في مدينة الكاظمية المقدسة، تعود اصوله إلى مدينة الخالص في محافظة ديالى، تربى في كنف اسرة علمية و دينية، ليرتشف منها منافع العلم ومبادئ الدين الأصيل، تلقى تعليمه علي يد والده الإمام الشيخ مهدي الخالصي الاسدي، فضلاً عن كبار علماء عصره، الشيخ مهدي المراياتي، والشيخ محمد حسين الكاظمي، والآخوند محمد كاظم الخراساني، والشيخ راضي الخالصي، والشيخ صادق الخالصي، والإمام الميرزا محمد تقي الشيرازي، درس الفقه والاصول واللغة وسائر العلوم الدينية، كان الشيخ الخالصي لنبوغه قد حاز على درجة الاجتهاد في سنٍ مبكرة جداً، وكان متبحراً في العلوم الدينية إلى جانب العلوم الحديثة كالطبيعيات والرياضيات والطب، ويُلم باللغات الفارسية والتركية والفرنسية إلى جانب تعمقه بالعربية.
جهاده ضد الإنكليز
كان للشيخ الخالصي دورا كبيرا في الجهاد ضد الإنكليز منذ وصول قواتهم الى العراق عام 1914م، اذ هبّ بمعية والده وجمع من العلماء للتصدي لهم، حيث خرج الشيخ على رأس ثلة من المجاهدين إلى سوح القتال في 19 تشرين الثاني 1914 تحت إمرة والده، فقاتل بنفسه وعمل كمنسق بين قيادة العلماء وقوات المجاهدين وبقي في جبهات القتال بالرغم من اصابته بجرح في رأسه أضر بعينه اليمنى حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.
موقف الخالصي من ثورة العشرين
كان الشيخ محمد الخالصي خطيباً مفوّهاً، ومجاهداً صلباً، وعالماً شجاعاً، لذلك طلب اليه الإمام الميرزا محمد تقي الشيرازي أن يخطب معلناً بدء الثورة العراقية الكبرى ضد الإنكليز بحضور قادة الثورة وشيوخ العشائر العراقية الثائرة وفصائل المجاهدين الذين اجتمعوا في حشد كبير بصحن الامام العباس عليه السلام وسط مدينة كربلاء المقدسة في الرابع من شهر شوال عام 1338 للهجرة - 21 حزيران 1920م، فخطب فيهم الخالصي خطابه الحماسي الشهير، الذي ثبّت به قلوب المجاهدين، وألهب حماسهم، وذكّرهم بإباء سيد الشهداء الإمام الحسين، وحذّر الإنكليز من مغبة الظلم بحق الشعب العراقي الأبي، ولشدة تأثير هذا الخطاب في النفوس كان الثوار يطلقون شعارات وهتافات ثورية واشعار شعبية مؤيدة لقادة الثورة وعلمائها، بعد هذا الاجتماع حاصرت القوات البريطانية مدينة كربلاء المقدسة، وطالبت الميرزا الشيرازي تسليم سبعة عشر نفراً من الناشطين والمحرضين على الثورة، وكان من بينهم الشيخ الخالصي.
نفيه خارج العراق
بعد معارضته الشديدة لمعاهدة الانتداب البريطاني على العراق، انتخب الشيخ محمد الخالصي رفقة خمسة أعضاء اخرين لتشكيل لجنة كانت مهمتها الرئيسية ابلاغ الملك فيصل الأول والدول الأجنبية والمنظمات الدولية، رفض أبناء العراق للمعاهدة الجائرة المفروضة على الشعب العراقي، حين وصل الخبر الى مسامع الإنكليز عملوا على تضيق الخناق عليه وتحجيم دوره، فامر السير (برسي كوكس) بنفيه الى الحجاز في 28 آب 1922م، الا انه غادرها بعد أداء فريضة الحج متوجهاً الى إيران.
بعد عودته من المنفى
اهتم الشيخ محمد الخالصي بعد عودته الى العراق من منفاه الذي استمر لمدة 27 عاماً بجملة من الأمور أهمها إقامة صلاة الجمعة على وجهها العبادي والسياسي في صحن الكاظمية المطهر، اهتمامه بالدعوة إلى الوحدة الإسلامية حيث قام من أجل ذلك بالسفر الى عدة مدن داخل العراق، وكذلك إلى مجموعة من الدول الاسلامية منها الديار المقدسة (مكة والمدينة المنورة) ومصر وسورية وفلسطين ولبنان، وقد لقيت دعوته الصادقة إلى الوحدة الإسلامية استجابة علماء المسلمين، لما وجدوا فيه من صدق النية ومقاومته للأنظمة الظالمة المتسلطة على الحكم في العراق، ومحاربة البدع والخرافات التي سادت بين المسلمين، وتنزيه العقيدة الإسلامية من الانحراف، فكانت هذه هي النقطة الأصعب في جهاده، لان تنزيه الدين من البدع والخرافات التي يظنها الجهال انها من أصل الدين تحتاج إلى شجاعة ونكران للذات في الله، وهو ما ألّب عليه الاصدقاء والأعداء، فضلا عن تشييد وإعمار مدرسة والده الدينية (جامعة مدينة العلم) في الكاظمية لتكون جامعة علمية دينية يتخرّج منها علماء يجمعون بين العلوم الدينية والعلوم الحديثة.
مؤلفاته
بالرغم من المضايقات التي كان تعرض لها الشيخ الخالصي واعتقالاته المتكررة في العراق وإيران، والتحركات التي كانت تثار ضده، وفقده للبصر في سنيَّ حياته الأخيرة نتيجة لسقيه السم مرات في هذين البلدين فقد ترك الإمام مؤلفات عديدة باللغتين العربية والفارسية في الفقه واصوله والعقائد والتاريخ والفلسفة الإسلامية والتفسير منها، الإسلام سبيل السعادة والسلام (رسالته العملية المختصرة) وإحياء الشريعة في مذهب الشيعة (رسالته العملية في عدة أجزاء) والمعارف المحمدية والوقاية من أخطاء الكفاية والجمعة و النيروز (في بدعية عيد النوروز) والاقتصاد والدولة في الإسلام و بطل الإسلام و العروبة في دار البوار فهل من منقذ ومؤلفات أخرى.
وفاته
نظم الشيخ الخالصي حفلاً بمناسبة المولد النبوي الشريف في صحن الامام الكاظم عليه السلام، وقد دعا لحضوره العديد من رجال الدين والعلماء وسياسيون وممثلون لمجموعة من الدول الإسلامية، بعد عودته من الحفل، ظهرت عليه آثار المرض ولازمته الحمى الشديدة وعلامات التسمم، نقل إلى مدينة الخالص، ثم اُعيد إلى بغداد ورقد في مستشفى الرازي، بقي فيها عدة أيام إلى أن فاضت روحه الزكية ورجعت إلى ربها راضية مرضية في صباح يوم الجمعة 21 كانون الأول 1963م.
المصادر:
الناشر: مركز كربلاء للدراسات والبحوث
https://c-karbala.com/ar/Reports-sub/7250