الرئيسية / المقالات / مقالات مختارة

  • التجديد الفقهي عند الإمام الخالصي الكبير - الشيخ جواد الخالصي (دام ظله)

  • التجديد الفقهي عند الإمام الخالصي الكبير - الشيخ جواد الخالصي (دام ظله)
    2020/05/06

    التجديد الفقهي عند الإمام الخالصي الكبير

    بقلم: حفيد الإمام الخالصي الكبير

    سماحة آية الله العظمى الشيخ جواد الخالصي (دام ظله)

     

    عندما بدأ الامام الخالصي مشروعه النهضوي الحضاري، في ظروف المواجهة الخطيرة ومقدماتها وارهاصاتها المصيرية مع مخطط التسلط الغربي على العالم الإسلامي، أولى الجانب الخاص بالتجديد الفقهي اهتماماً مميزاً باعتبار ان الحركة التجديدية ميع جوانبها تستند إلى اسس الأحكام الشرعية الفقهية، فالمشروع اسلامي فقهي فلا مناص من قيامه على صورة اخرى للشريعة المقدسة، غير التي وصلت إليها في فترات التخاذل والتراجع والانحراف، فكان لازماً اعطاء الصورة الحقيقية للشريعة المقدسة بالعودة إلى استنباط متجدد من الكتاب والسنة وسيرة الأئمة الهداة المهديين، وبما يتناسب مع حركة الزمن وحاجات الناس في هذه الاوقات وبما يعطي صورة كاملة لأمة واحدة تواجه قوى الشر التي تحاول الاستيلاء على العالم الاسلامي منذ قرون عديدة، فبادر رضوان الله عليه إلى تجديد الابحاث الفقهية في دروسه العالية التي كان يلقيها في مدرسته الدينية التي اسسها سنة1330هـ-1911م وسماها (المدرسة الزهراء)، كما كان يهيئ لهذا المشروع الفقهي المتجدد قبل هذا التاريخ من خلال بحوثه ودروسه التي كان يلقيها في المسجد الجامع في الروضة الكاظمية المطهرة، وحتى خلال فترة دراسته وبحوثه في النجف وسامراء والكاظمية.

    لقد اعطى الامام الكبير عدة ابعاد لهذه الحركة التي تستند إلى اجتهاد فقهي اسلامي انساني جديد من مصادر التشريع بتحديد المقاصد الكبرى للشريعة ومواصفاتها الثابتة، وبإظهار الفروع الفقهية منسجمة مع هذه التوجهات، وهي التي يحتاجها المجتمع والفرد المسلم في هذه المرحلة الحساسة، فأكد على ان الشريعة الاسلامية:

    1-  سمحة سهلة كما ورد في الحديث الشريف.

    2-  شاملة لحاجات الانسان ومنسجمة مع المجتمع البشري في مراحل الزمن الذي يعيشه.

    3-  جاءت لمصلحة الانسان وبناء حياته.

    4-  وهي تنظر إلى مصيره الابدي في الآخرة ضمن عمارة الارض والعيش في الدنيا بما يرضي الله ويصلح الانسان.

    5-  تهتم بالمجتمع والكيان السياسي كما تهتم بالفرد ومصالحه الخاصة.

    6-  شريعة واحد موحِدة للمجتمع، لأنها تنطلق من أسس واحدة ومصادرها ثابتة معروفة.

    7-  وان الاهتمام بالمقاصد والأخذ بأطرها العامة يلتزم بثوابت الأحكام ومصادره المقدسة، وليس التجديد منفذاً مفتوحاً للتبديل والتغيير والابتداع.

    وقد بادر في مرحلة لاحقة إلى كتابة رسالته العملية التي سماها (الشريعة السمحاء في أحكام خاتم الأنبياء) بما ينسجم مع هذه التوجهات وحاجات المجتمع المتجددة وقد جعلها، ولعلها الرسالة العملية الأولى والنادرة حتى هذا الزمان، خالية من كلمات الاحتياط المعقدة والتي تجعل المكلف مرتبكاً بين اشكاله وانواعه ولازمه وجائزه ومستحبه، والاعادة إلى الغير من الفقهاء وعدم جواز ذلك، فكتب رسالته المذكورة وهي خالية من كلمة أحوط، بل اثبت الأحكام الفرعية على ما وصل إليه جهده واجتهاده في عملية الاستنباط.

    ففي الجانب الشخصي أو الفردي في الأحكام أظهر صورة الاحكام الميسرة، والتي تستند إلى الأصول الصحيحة والروايات الثابتة والتي غطى عليها الزمان وأحداثه المتراجعة، والتي أحاطت بالأمة الاسلامية من كل مكان. ففي واحدة من آرائه الجريئة أفتى (قدس) بالحكم الشرعي المعروف جداً عند المتقدمين وهو يتعلق أحكام الطهارة وطرق انتقال النجاسات، حيث تبنى الرأي الفقهي الأصيل وبشكل علني وجريء وهو قول: (المتنجس لا ينجس).

    والذي أدى تركه لازمان طويلة إلى حصول آثار سلبية عند الكثير من طبقات المتدينين، وعند طلبة العلوم الشرعية خصوصاً في بدايات دراساتهم، وهو حكم شرعي ينسجم مع روح الشريعة في التطهير والنظافة والتيسير، وهذا الحكم ما زال إلى اليوم غير مفهوم في الرسائل العملية، فمن قائل ان المتنجس الأول ينجس، ولكن الثاني وما بعده لا ينجس، ومن قائل ان الثاني ينجس ايضاً، ولكن لو تعددت الوسائط بشكل كبير فإنه لا ينجس دون تحديد عدد هذه الوسائط وإلى غيرها من الأمور المعقدة التي تصل إلى درجة الوسواس. وإنما اخترنا هذا النموذج لأنه في احكام الطهارة الاولى وتتعلق بالجانب الشخصي المباشر للإنسان، فكيف بباقي الأحكام؟، كما كان سبب الاختيار لهذا النموذج للإشارة إلى صعوبة احكام هذه الأسوار المتداخلة في المجتمعات الدينية والدراسية بالذات ولو كانت حكماً في مثل هذه الأحكام كما كان يقول كثير من العلماء بأن التخشب وصل إلى درجة قاسية بحيث يصعب تغيير كتاب من كتب الدراسة الحوزوية ويستحيل بعد ذلك التفكير باستنباط فقهي جديد ولو في مسألة فرعية في مثل هذه المسائل.

    ولو اضفنا اليها نماذج من الفتاوى الرائدة والتي لم يُتطرق إليها الا في مراحل متأخرة وفي مساحات محدودة، حيث ما زالت تعاني حركة التجديد الفقهي في اغلب الساحات العلمية، ولو كانت من الفتاوى الفرعية، ولعل واحدة منها القول بطهارة أهل الكتاب، والأخرى عدم إعتبار الدخان من المفطرات بالصوم، فإن هاتين الفتويين من النماذج الاخرى التي تطرق إليها الامام الراحل وقامت حولها ضجة كبيرة مفتعلة ومؤسفة، ككثير من الضجيج الذي يثار حول كل مسألة من المسائل الفقهية، ولو كانت معروفة عند الفقهاء وأهل العلم عامة أو عند المتقدمين مثلاً، والفتويان المذكورتان طهارة أهل الكتاب وعدم إعتبار الدخان من مفطرات الصوم جرى الحديث عنها بعد زمن طويل حيث عادت الاولى في الستينات والسبعينات عندما أفتى بها المرجع السيد محسن الحكيم(قدس)، والثانية ظهرت في التسعينات بعد ان جهر بها السيد الشهيد الصدر الثاني(قدس).

    وكان الشيخ رحمه الله يؤكد على الحديث النبوي المشهور (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) كما أكد على العودة إلى السنن الثابتة في الأذان والصلاة وباقي العبادات، وتجنب البدع أو الاجتهادات الناشزة التي أدت وتؤدي إلى تفريق الأمة وتقسيمها، كما دعا إلى وحدة المسلمين بدءاً من جماعاتهم وجمعاتهم إلى مناسكهم ومواقفهم، وإلى قرارهم السياسي وبناء كيان دولتهم، ومع أن الامام الراحل لم يقم صلاة الجمعة بنفسه وكان يشترط لاقامتها وجود السلطان العادل كما في رسالته، والتي يفسرها البعض بأنها تعني وجود الفقيه العادل أو المبسوط اليد، إلا أنه كان يقول دائماً ان اقامة الجمعة هي منطلق عز للمسلمين وكان يظهر اسفه وألمه على عدم اقامتها، حتى تسنى لنجله الأكبر ووارث مسيرته بآلامها وانجازاتها الإمام الشيخ محمد الخالصي (قدس) من تجديد اصولها وتأكيد مصادرها وتحرير مسائلها، فكتب في منفاه في مدينة نهاوند كتاب (الجمعة) والذي اتمه في منفاه التالي وهو مدينة (تويسركان)، وكتب فيه هذه المعلومات وما سمعه من أبيه الإمام الكبير، وهذا ايضاً ما قرأناه أو سمعناه من عالمين كبيرين ومرجعين بارزين لم يتمكنا من اقامة الجمعة، ولكنهما كان يتألمان ويتسأفان على عدم اقامتها ويسعيان أو يفكران في ذلك كثيراً، لما عرفا في هذا الحكم (صلاة الجمعة) من قوة وفوائد على الأمة كلها. وهاذان العلمان هما الإمام الخميني والشهيد الصدر الأول، فقد كتب الإمام الخميني وسمعنا ذلك من الشهيد الصدر، ان الجمعة من الاحكام العظيمة التي يمكن بإقامتها جمع كلمة الأمة واعطاءها القوة والمِنعة، وهذا الشعور الإيماني والاحساس الذاتي بأهمية حكم صلاة الجمعة، كان السبب في مرحلة لاحقة لإقامة الجمعة في ايران بعد انتصار الثورة، وفي العراق بعد حركة المرجع الشهيد الصدر الثاني، وكانت تتصف بالحضور الجماهيري الواسع، والذي وصل أعداده إلى الملايين.

    من حكم شرعي شخصي في الطهارة إلى حكم عام في الجمعة والجماعة، وإلى أحكام الفقه السياسي الأكثر خطورة وأهمية، كان الإمام الخالصي الكبير مؤسساً لحركة استنباط جديدة، وفهم متطور لإعادة الأمة إلى روح شريعتها وعزة مجدها، وما أحكام الجهاد والمقاومة التي كتبها في بحوثه في جبهات الحرب في جنوب العراق وآرائه في وحدة الأمة والكيان السياسي وكيفية التعامل مع الحاكم المسلم، عادلاً او غير عادل، مستقلاً او غير مستقل، حيث لكل منهم احكام خاصة وطريقة شرعية في التعامل، بما يضمن سيادة الاسلام وسلامة الأمة، وضمان مصالح العباد، ويرتكز كل ذلك على رفض التعامل مع أعداء الأمة، والقوى الخارجية لحسم صراعات الداخل وتحقيق المكاسب الضيقة الشخصية أو الطائفية أو العرقية أو الحزبية كما يزعم الطامعون.

    فإن هجوم أية قوة خارجية على بلاد المسلمين يجب ان يُجابه من قبل كل ابناء الأمة بالرفض والمقاومة والجهاد حتى ابعاد الخطر عن بلاد المسلمين، وهذا أعظم وأهم ما اثبته وأكده الإمام الخالصي الكبير وحرر مسائله ومارسه بجهده وجهاده وختمه بشهادته المدوية والعظمية في دار الغربة، وبجوار امام الغرباء في طوس.

    وهو ما احتاجت إليه الأمة في العالم، من العراق خاصة ضد الغزو البريطاني 1915م، وإلى الاحتلال الأمريكي 2003م، والذي كان اساس حركة الأمة في مواجهتها مع الاحتلال الأجنبي لمائة عام كاملة، هي مئوية الجهاد والمقاومة والتي لن تتوقف حتى تسترجع الأمة كامل سيادتها وتعيد كل امجادها تحت راية الإسلام.

    ويكفي في ذلك ان نلاحظ انعكاس مسيرة الإمام الراحل في الأدب والشعر والبيان، لنعرف آثار عملية النهضة التي رسمها على الاسس الفقهية التي حرر مسائلها وجدد الاجتهاد فيها، وهو ما نقرأه في القسم الأخير من انعكاس حركته حتى وفاته في الأدب والشعر العربي.