الشيخ محمد مهدي الخالصي قصة ظلم عبر التأريخ
منذ بدء الخليقة وإلى اليوم ومنذ خلق الله السماوات والأرض، جعل الدنيا دار فناءٍ وزوالٍ تتصرف باهلها حالاً بعد حالٍ فيفتتن ويغترّ بها الشقيّ المغرور، ويعرض عنها من استشعر خطرها وابتغى اخرته، يحتدم الصراع بين أهل الخير وبين أهل الشر.
فيمتحن الله بالبلاء خاصته من أوليائه على قدر منزلتهم! فأقربهم منه منزلة وأخصهم رحمة أعظمهم بلاءً وأشدهم في سبيله عناءً.
فهذا رسول الله وحبيبه محمد صلى الله عليه واله وسلّم الذي تحمل عبء الرسالة وأوذي في سبيل نشر رسالة الإسلام حتى قال: " ما أوذي نبيٌ بمثل ما أوذيت" خير شاهد ودليل.
وعلى هذا الدرب سار أهل بيته الاطهار الذين سلكوا سبيله حتى صار القتل لهم عادة وكرامتهم من الله الشهادة، ومن تبعهم من الصحابة الأجلة والعلماء العاملين الثابتين على منهجهم إذ لا تأخذهم في الله لومة لائم ولا تزلزلهم سطوة ظالم.
ولعل من أبرز العلماء المعاصرين ممن تعرضوا لأنواع المحن والابتلاء هو الشيخ محمد مهدي الخالصي حفظه الله تعالى وأبقاه، نجل الشيخ محمد الخالصي وحفيد الشيخ مهدي الخالصي الكبير قائد ثورة العشرين.
يعد الشيخ الخالصي الحفيد المشتهر بمواقفه الجهادية الأصيلة وثباته على الخط الجهادي الأصيل الذي سار عليه جدّه وأبوه والعلماء العاملون من قادة ثورة العشرين المجيدة وقادة حروب الجهاد والمقاومة، صاحب الفكر الثاقب والعقل الراجح والذكاء المفرط والهيبة والوقار، وصاحب التأريخ الجهادي الطويل في مقدمة أولئك العلماء، حيث كانت ولادته في المنفى! فكان يتنقل مع والده من منفى الى اخر ومن سجن لاخر ومن ساحة جهاد إلى أخرى!
في مقتبل شبابه حُكم عليه بالإعدام بدعوى مخالفة الأوامر العسكرية القاضية بمقاتلة الاكراد وهذا ما رفضه شيخنا جملة وتفصيلًا عادًّا ذلك مخالفًا لقيم ومبادئ الشرع الشريف الذي يؤمن به.
لقد تعرّض شيخنا الجليل إلى محنٍ ومصاعب لا يستطيع تحمّلها إلاّ من أنعم الله عليه بنعمة الصبر والثبات. فوقف رعاه الله غير آبه بتلك المحن والبلايا والمصائب والاغتيالات! متحمّلا ذلك كلّه في سبيل الله، ثابتًا ثبوت الجبال الرواسي التي لا تزحزحها الرياح العواصف! متأسيًا بالنبيّ والائمة الأطهار وآبائه الأبرار.
وبقي شيخنا المقدام ينافح عن الوطن والدين ويكابد في هذا السبيل المحن ويتحمل المصاعب والصبر على عظيم البلية!
ورغم أني لم أرَ الشيخ الهمام ألاَّ بعد سنوات من احتلال بغداد الاَّ أني كنت من أشدّ المعجبين بطريقة خطابه!
فعندما كنت صغيرًا كان والدي دائم الاستماع إلى خطبه بواسطة المسجل وكنت أعجب بذلك الكم الهائل من أشرطة الكاسيت التي بحوزة والدي والتي كانت تشكل خطرًا كبيرًا على مقتنيها آن ذاك! حتى اذكر في ذلك الوقت (بداية التسعينيات) كانت هنالك جلسات شبه منتظمة يحضرها أعمامي وأخوالي لاستماع خطبة من خطابات الشيخ الخالصي الرنانة التي قلّ نظيرها، ولصغر سني في تلك المرحلة لم أكن أدرك قيمة تلك الكلمات التي يُلقيها سماحته بقدر أعجابي بنبرة صوته وطريقة كلامه!، ولعل أبرز ما أعجبت به في تلك المرحلة السنية تلك الخطبة العجيبة "صرخة عاشوراء" فكان أبي يقصّ علينا كيف خطب الامام الخالصي تلك الخطبة وسط ذلك الجو المشحون! وبتلك الطريقة الفريدة والبعثية والعفلقية بأوجّها!
يقول والدي حفظه الله تعالى: كنت من الحضور القليل الذين حضروا تلك الخطبة (العاشر من محرم الحرام الموافق (31-12-1976 للميلاد))، لما رأى سماحة الشيخ ذلك الصمت الرهيب واختفاء معالم المناسبة عند دخوله الصحن الكاظمي المطهّر انزعج انزعاجًا شديدَا واستنكر ذلك الخوف والصمت المطبق! فصعد منبره وحدّث الناس عن أهداف ومعالم ثورة السبط الشهيد -ع- حتّى عجَّ الحضور بالبكاء والعويل مما أنساهم الخوف وخطورة ما تحدّث به سماحته! خصوصًا أنه استهدف النظام آن ذاك بشكل علني بقوله: (هل أنتم تريدون عزَّ العروبة؟ هل أنتم تريدون وحدة الكلمة؟ أذن دقيقة اسمعوا إلينا ... فلن تستطيع قوة في الدنيا أن تطمس راية الحسين أو تزيل تلك الذكرى، بل انها ستنبثق يوما بعد يوم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها) فكان ثمن ذلك الموقف البطولي الاعتقال والتعذيب!
وأعجب ما بقي في ذهني عن هذا العالم الجليل تلك البشارة التي كان يردِّدها والدي باستمرار "سيرجع شيخ مهدي وتسمعون خطابه"
ففي أواخر التسعينات وبعد عودة صلاة الجمعة الى جامع الجوادين (الصفوي) بإمامة سماحة السيد علي المدامغة الموسوي (رحمه الله تعالى) كان أبي يخبرنا بأكثر من مناسبة وتقريبا بعد عودتنا من كل جمعة: "سيعود شيخ مهدي وتسمعون خطابا لا يشبهه خطاب" وفعلا شاءت إرادة الله أن يسقط الصنم ويعود شيخ مهدي شامخًا رغم أنوف الطغاة والحاقدين، ونستمع إلى صوته مباشرة دون الحاجة الى مسجل، وعندما ترى شيخ مهدي لا تستطيع الاّ أن تعجب وتذهل به! فيزداد اعجابك وحبك له في الله اضعافًا مضاعفة.
ولكن يا للأسف والمرارة فقد صادر أعوان الاحتلال وأذنابه منبره وأغلقوا مسجده! مرتكبين فعلا أقبح من فعل صدام وأعوانه! فاذا كان البعثيون على خستهم ونذالتهم لم يجرؤا على مصادرة المنبر واغتصاب المسجد فقد فعل ذلك أدعياء التشيع! والتشيع منهم براء فهم بحقيقتهم اشياع بريمر وبوش! ليشكل ذلك ظلمًا آخر بحق هذا الشيخ الانسان! الذي بقي ينصح ويردد "نحن لا ننازع أحدًا على جاه ولا مال! إنما ندافع عن حقوق البلاد والعباد".
ولا شكَّ أن منبره ومسجده سيعود كما عاد هو وسقط أعداؤه! وسيسقط غاصبوا حقه وظالموه.
ومن الكلمات الخالدة التي لا يمكن نسيانها لذلك العالم الفذّ والتي كان يطلقها من منبره المجاهد في كل مناسبة وحدث:
1- ارجوزة المقاومة:
(ثلاثة لا تقبل المساومة! القدس، والعودة، والمقاومة)
2- وقوفه قبل أن تنزل الكارثة على هذه الأمة ناصحًا ومنذرًا ومحذرًا كلّ العراقيين:
(أن أمريكا تريد وضع العراقيين بين خيارين إما البقاء على صدام وإما قبول الاحتلال! رافضة خيار العراقيين كشعب وكأمة يسودها الإسلام وشريعة سيد المرسلين.)
3- مقاومته للاحتلال: (هنالك شعب وهنالك احتلال، فما يجري ضد الشعب فهو من صنع الاحتلال! وما يجري ضد الاحتلال فهو من صنع الشعب)
4- صرخته الحسينية ضد الاحتلال: (لا للاحتلال وللسائرين في ركاب الاحتلال! لا كبيرة بحجم لا إله الاّ الله وبحجم لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ لكم إقرار العبيد)
5- ومن عجيب مواقفه وأقواله كان ذلك الموقف التاريخي المصيري حين وقف بوجه من يقول ان الانتخابات أوجب من الصلاة والصيام! والآخر الذي يقول: ان نساءكم محرمة عليكم أن لم تنتخبوا! ليقول حفظه الله قولا فصلا أثبتت الأيام صحته وفطنة قائله! قائلا: " إن الانتخابات مصلحة أمريكية."
ومقولته الأخرى التي تتجلى فيها نظرة المؤمن الذي ينظر بعين البصيرة وفراسة المؤمن:
" سيأتي يوم يودّ فيه من ادخل اصبعه في الحبر البنفسجي الذي هو بمثابة الولوج بدماء الابرياء من الشعب العراقي لو يقطعون اصابعهم ندمًا لما ارتكبوه من حماقة"
6- في داعش: (داعش صناعة أمريكية). (اطردوا أمريكا من العراق وستنهار داعش).
وهنالك الكثير الكثير من تلك الكلمات الخالدة التي فيها من العبر والحكمة ما لا يسع المقام لذكرها فما من حدث يجري على هذه الامة إلا ووقف هذا الشيخ الجليل يحذرها كما حذرها رسول الله (ص) حين قال: "يأتي شيءٌ من المشرق وشيءٌ من المغرب، يلوّن أمتي! فويلٌ لضعفاء أمتي."
ولم يثنِ عزمه سقوط وانزواء كثير من أبناء الامة وعلمائها في متاهات مشاريع الاحتلال الأمريكي وعمليته السياسية التي عاثت بأبناء العراق فسادًا!
وكان أخير تلك المواقف وليس اخرها بإذن الله تعالى موقفه بيوم القدس العالمي في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك 1444ھ، والذي أبى فيه الاّ أن يشارك جموع المصلين وقفتهم رغم تحذيرات الأطباء من الخروج والتكلم مع الناس ولكنّه أبقاه الله ذخرًا للامة حرص الاّ أن يوصل رسالة للامة ولعلمائها: بأن خروجي وحديثي معكم بهذا الوضع الصحي الحرج! وبهذا العمر الذي جاوز الثمانين! ما هو إلاَّ حجة عليكم بأن لا تتركوا قضايا الامة ونصرة أهل الحقّ بمختلف مللهم، وتحت أيّ ظرف كان!
وموقفه في صلاة عيد الفطر الذي جاشت فيه العواطف وتحركت فيه الاحاسيس! فمن كان يستمع الى خطابات وصوت ذلك الأسد الهصور في شبابه، الذي كان المنبر يهتز تحت قدميه يكاد لا يصدق أنه اضحى اليوم غير قادر على تسلق منبره! لقد أثر ذلك جدًا في داخلي فلم أتمالك دموعي ولم أكن قادرًا على حبس مشاعري.
ورغم كل ذلك التأريخ الناصع والمليء بالتضحيات والبطولات ما يزال الشيخ مهدي يُظلم بشتى أنواع الظلم! تارة بالنفي والسجن! وأخرى بالتهميش والابعاد والحرب الإعلامية الجائرة دون أن ينال ذلك من عزمه أو يفتُر من همته بل زاده ومن معه إيمانًا واحتساًبًا وتسليمًا! وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل.
هكذا هو الشيخ مهدي الخالصي سليل الحسب والنسب كالشمس في رابعة النهار علم من الاعلام ليس بحاجة إلى تعريف ولكنّي حين اكتب هذه السطور لينتفع بها الجيل المعاصر ممن يجهل هذه الشخصية المرموقة وهذا التاريخ العريق فيرتكب ظلامة أخرى بحق هذا العلم الهمام، الذي ما ففتئ يدعوا لهم ولنا ولجميع المسلمين: "اللهم من كان من هذه الامة على الحقّ فثبته على الحقّ، ومن كان على غير الحقّ فاهده للحق، حتى لا يهلك من هذه الامة أحد."
واخيرًا.. وبعيدًا عن العواطف!
مَنْ مِنَ الموجودين تعرض لما تعرض له الشيخ مهدي؟
مَنْ مِنَ الموجودين وقف وحذر من وقوع الفتن قبل حصولها كالشيخ مهدي؟
ما قيمة الرسائل العملية التي لا فرق بينها سوى الأحوط والأولى والاحسن وما الى ذلك من الذي طرحه وحذر منه سماحته منذ نشأته والى اليوم؟
نبأوني بعلم إن كنتم صادقين.
وما دام للحياة بقية فسيسقط من يسقط وينزوي من ينزوي ولم تبقَ الاّ العصابة التي بشّر بها النبيّ (ص): " لا تزال عصابة من أمتي ظاهرين على الحقِّ حتى يسلم آخرهم إلى المهدي."
جعلنا الله وإياكم من تلك العصابة التي بشَّر بها رسول الله (ص) ومن الثابتين على دينهم، من الذين لا يرضون بغير الاستقلال التام لبلدهم تحت راية الإسلام الأصيل.
﴿ فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِل مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضۖ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّٰت تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ ثَوَابا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ ﴾