عصا موسى وعصا السنوار
حين بقي يحيى السنوار وحيداً جريحاً، أدخلوا طائرة مسيرة لتصوير الحالة داخل بيت البطولة المتفردة، لم يجد بجانبه إلا عصا خشبية، رفعها بقوة ليضرب بها الطائرة المتلصصة، وكأنه يقول ما كان يردده عن قول الامام علي (ع):
أي يَومَيَّ مِنَ المَوتَ أَفِر ** يَومَ لا قدِّرُ أَو يَومَ قَدِر
يَومَ ما قُدِّرَ لا أَرهَبُهُ ** وَإِذا قَدِّرَ لا يُنجي الحَذَر
استمرار الذكريات التي أوصلتنا إلى هذه المرحلة، وعند انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة والكفاح المسلح (العاصفة) سنة 1965م، جرت احتفالات كبيرة لتأييد الثورة والمساهمة في دعمها وإسنادها، بل والمشاركة في الجهاد فيها. وكان عدد كبير من العراقيين قد بادروا وساهموا، حتى قبل انطلاق الثورة جهادياً في 1-1-1965م، في عملية الجولان المشهورة انطلاقاً من سوريا. وكان أحد الاحتفالات قد جرى في قاعة الخلد، التي تحولت لاحقاً إلى مكان مرعب في مراحل تالية. فقد جرى فيها احتفال كبير وعاصف، ولعله كان بعد نكسة حزيران، وبعد 17 تموز 1968م، وكان يهمنا الحضور في المناسبات دفاعاً عن الثورة، ومنعاً لمحاولات الهيمنة والاستيلاء عليها من قبل جناح الحكم الموجه للإستيلاء على الأمور الكبيرة ولجمها بحجة التوجه القومي الذي كان يتنباه هذا النظام نفسه ظاهراً.
وعند حضورنا الحفل الذي حضره ياسر عرفات، القائد البارز والعائد آنذاك من بكين (الصين)، وما كان يمثله أبو عمار في تلك الفترة من صرخة رفض للمشروع الصهيوني، ومع الالتفاف الجماهيري حول الثورة ورفض الثورات المزيفة التي اصطنعت في العراق وغيره لتدمير كل الخطوات الإيجابية في حركة الأمة ومواجهة الصهيونية، ألقى أبو عمار كلمة ثورية عاصفة ألهبت الجماهير الفلسطينية والعراقية الحاضرة في الحفل.
ثم ألقى الشاعر والأديب الشيخ محمد حسين الصغير قصيدة رائعة، ضاهى بها قصيدة السيد الشاعر عبد الرسول الكفائي التي أُلقيت في أوائل الخمسينات، وتشمل أحداث التمهيد للثورة الإسلامية أيضاً. وكانت قصيدة السيد الكفائي في وداع الإمام الخالصي عندما ذهب إلى الحج:
على الطائر الميمون للكعبة الغرّا ** سرى المصلح المهدي، سبحان من اسرى
فجاءت قصيدة الشاعر محمد حسين الصغير على نفس النمط في مطلعها:
"سبحان من أسرى بالثورة الكبرى" (وهو يقصد بها انطلاق حركة فتح)
وختمها ببيت شعر حفظته منذ ذلك اليوم:
صهاينة كادوا الشعوب بسحرهم ** وفتح عصا موسى التي تلقف السحرا
وفعلاً كانت حركة فتح، بتوجهاتها الوطنية وروحها الإيمانية، ساحة استقطاب لكل المناضلين من أجل فلسطين وتحريرها من البحر إلى النهر، وفق الميثاق الوطني الفلسطيني قبل حصار الثورة والخداع الذي أحاطها واتفاقيات أوسلو.
وحين تطور الكفاح الوطني الفلسطيني بالثقافة والوعي الإسلامي ومقاومة الشهداء، خصوصاً بعد عصر الصحوة التي ساهمت الثورة الفلسطينية في إنجازها، وبعد عصر الثورة التي ساهمت ايضاً في تأييديها واسنادها حتى قبل انطلاقتها الواسعة، ثم جاءت مرحلة الحركة الإسلامية ودورها في الجهاد لتحقيق المطلب المنشود في المسيرة. إنها المقاومة الإسلامية التي استندت إلى ثقافة الإيمان والجهاد والشهادة. وهنا جاءت حماس، والجهاد الإسلامي، وحزب الله، والمقاومون في العراق، وأنصار الله في اليمن، وحركات الجماهير في العالم الإسلامي لتنطلق إلى المرحلة القادمة المستقبلية لهذه الأمة، التي استقطبت القوى الخيّرة من فتح والجبهة الشعبية، من التي سبقت الكفاح وباقي المجاهدين، وبإسناد الجمهورية الإسلامية ودعم سوريا الصامدة.
ووصلنا إلى طوفان الأقصى وغزة وإسنادها في لبنان وإيران والعراق واليمن، وباقي البلاد الإسلامية، بل ومن كل أحرار العالم وشرفاء الأمم، فإذا بنا نواجه صورة رائعة مميزة من بين آلاف الصور التي رآها العالم، وهي لقائد المقاومة في غزة وهو يشتبك بكل شجاعة مع دبابات العدو وطائراته الدرون وجنوده المدججين بالسلاح. وحين سقط جريحاً على الأرض، وقبل أن يرتقي إلى السماء، يجد ابن الإسلام وفلسطين العظيم إلى جانبه عصا بسيطة، فيرفعها ويرمي بها طائرة العدو الجاسوسية، مؤكداً أن مسيرة النصر القائمة لن تتوقف حتى تحقيق أهدافها النهائية.
لقد أصبح السنوار ايقونة المجاهدين والعاملين لخلاص الإنسانية في سيطرة قوى الاستكبار والهيمنة من اجل ان تتجمع قوى الخير في الأرض لخلاص الإنسانية من ذلك التيه الكبير.
السنوار مثّل البطولة التي تحتاجها الإنسانية للحرية والانعتاق انه مجاهد في سبيل الله من اجل الحرية والخلاص، فتمثل فيه قول الشاعر:
غَدا غَدوَةً وَالحَمدُ نَسجُ رِدائِهِ ** فَلَم يَنصَرِف إِلّا وَأَكفانُهُ الأَجرُ
تَرَدّى ثِيابَ المَوتِ حُمراً فَما أَتى ** لَها اللَيلُ إِلّا وَهيَ مِن سُندُسٍ خُضرُ
فَتىً كانَ عَذبَ الروحِ لا مِن غَضاضَةٍ ** وَلَكِنَّ كِبراً أَن يُقالَ بِهِ كِبرُ
فَتىً ماتَ بَينَ الضَربِ وَالطَعنِ ميتَةً ** تَقومُ مَقامَ النَصرِ إِذ فاتَهُ النَصرُ
وَما ماتَ حَتّى ماتَ مَضرِبُ سَيفِهِ ** مِنَ الضَربِ وَاِعتَلَّت عَلَيهِ القَنا السُمرُ
عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ وَقفاً فَإِنَّني ** رَأَيتُ الكَريمَ الحُرَّ لَيسَ لَهُ عُمرُ
الراجي جواد الخالصي
30 ربيع الآخر 1446هـ
2 تشرين الثاني 2024م